تسكع في أرض البستان . في جيبه ترقد الرقعة كأنها ثعبان. مدّ يده ليستخرجها أكثر من مرة. ولكنه أعاد القرطاس إلى الرقعة في كل مرة. أعاد الرقعة إلى جيبه في كل مرة. لم يتخلص منها حتى عندما ذهب إلى مكتبه ليختط في القرطاس العبارة التي قلبت الآية: "بل بيد عمرو لا بيدي!". دس القرطاس في ذات الرقعة التي تلقى في جوفها الرسالة. علّق الرقعة على باب البيت ثم ذهب إلى جامع الباشا لتأدية صلاة الجمعة فلم تكتب له العودة إلى البيت أبداً، لأن "يد عمرو" ما لبثت أن سدّدت له طعنة بفصل مسموم سريع المفعول حتى أن المصلين لم يدركوا سر كبوته إلا عندما اكتشفوا أن سجدته كانت السجدة الأخيرة: السجدة الأبدية! في مقهى "الأعمدة" قال صاحب الشعر المفلفل: سرّ لم يفشه اللسان لا بد أن يذيعه الزمان! استفهم حميمة باشا فأوضح: حمداً لله أننا لم نحشر أنوفنا فيما لا يعنينا. تساءل صاحب الشعر السبط: هل هذه استعارة في شأن بائع الماء؟ بل هي استعارة في شأن بائع الموت لا بائع الماء! ابتسم صاحب الشعر السبط. تابع زحام السابلة. قال: الحمد لله أن الخفاء لم يكذبني يوم قلت لك أن البوح من شيم أهل الدنيا لا شيم أهل الفرجة!ولكنني أردت أن أنقذ ما يمكن انقاذه. أنقاذ ما يمكن انقاذه ليس رسالة الظلال التي تشغل كاهل هذه الأرض أمثالنا. كدت أسيء الظن برسالة الزمان يومها، وها هو يكشف الأمر الذي أحجمنا عن كشفه. هذا برهان على صواب الوصية التي تقول أننا لا يجب أن تحرك ساكناً ابداً. رشف صاحب الشعر المفلفل من قهوته المسكونة بروح الترياق. أطلق بلعومه صوتاً مكتوماً. تساءل: الزمان! أي لغز يا ترى هو الزمان؟ أجاب حميمه غائباً: لغز الزمان هو لغزنا نحن! هل تريد أن تقول أننا نحن الزمان؟ بلى. في المكان نسكن، ولكن الزمان هو الذي يسكننا! تطلع صاحب الشعر المفلفل إلى الفضاء المغمور بعتمة المساء. قال بلهجة من فاز بقبس الهام: المكان لنا جسد، والزمان فينا روح. أليس كذلك؟ استدرك قبل أن يسمع جواباً: ولكن معجزة الزمن: الكشف!.
يمضي الكوني ويمضي القارىء معه ليغرق في بحور فلسفته العميقة متخذاً من الرمز مطية يطير بها على جناح خيال محلقاً خارج الزمان وخارج المكان