كل مثقف مهنته هي إيضاح وتقديم أفكار ووجهات نظر وأيديولوجيات محددة، يطمح منطقياً إلى إنجاحها في المجتمع. والمثقف الذي يدّعي الكتابة فقط لذاته الخاصة، أو لأجل المعرفة الخالصة، أو العلم المجرد، لا يجب أن، ويجب ألا يصدق. كما قال كاتب القرن العشرين جان جينيه ذات مرة، في اللحظة التي تنشر فيها مقالات في مجتمع تكون قد دخلت الحياة السياسية فيه، وهكذا إذا كنت لا تريد أن تكون سياسياً لا تكتب مقالات أو تعبر عن رأيك بحرية.
تلك هي صورة المثقف المرسومة في ذهن وفكر إدوارد سعيد وهي صورة تتمتع بانتقائية مجردة عن الدوافع والأغراض المعروضة في السوق السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو أو... والتي منها يتزود منها مثقف اليوم، والتي من خلالها يرسم أفكاره وتطلعاته وآرائه التي يشيعها بين الجميع، فيضحي وبعد أن كان متأثراً بالمنحى السياسي أو الاجتماعي أو الفكري، مؤثراً في طموحات قرائه إلى أبعد حد، وخصوصاً إذا كان ذا هالة إعلامية.
إلا أن إدوارد سعيد هو ضد هذه النمطية للمثقف، فهو يعلن وبكل صراحة أنه ضد الاهتداء والإيمان برب سياسي من أي نوع، معتبراً أنهما سلوك غير صالح للمثقف، وهو لا يقصد أن يبقى المثقف على حافة الماء يتحسسه بإصبع من حين إلى آخر، ويبقى معظم الوقت دون بلل. فكل شيء كتبه إدوارد سعيد في محاضراته هذه حول صورة المثقف المتجرد، يؤكد أهمية انخراط المثقف العاطفي والمخاطرة والتعرية والالتزام بالمبادئ والحساسية في النقاش والتورط في قضايا الناس والبلدان. والفارق الذي رسمه إدوارد سعيد مبكراً بين المثقف المحترف والهاوي مثلاً يرتكز بدقة على هذا؛ إن المحترف يدعي الاستقلال على أساس الحرفة ويتظاهر بالموضوعية، في حين أن الهاوي لا يثار بالمكانات ولا بإنجاز سريع لحظة عمل؛ بل بالارتباط الملتزم بأفكار وقيم في الجو العام.
والمثقف مع الزمن يرتد نحو العالم السياسي بشكل طبيعي جزئياً، لأن هذا العالم بخلاف الأكاديمي أو الباحث في مخبر، تبعث فيه الحياة اعتبارات قوة ومصلحة على نطاق واسع تقود مجتمعاً أو أمة بكاملها والتي تحول المثقف من تأويل مسائل غير مترابطة نسبياً، إلى مسائل أكثر أهمية للتغير والتحول الاجتماعي.
إلى جانب ذلك يثير إدوارد سعيد مسألة حساسة تتمحور حول انتماءات المثقف. والتي تتكون تبعاً للمعطيات الأكثر تأثيراً في الدائرة السياسية. فجوهر ظاهرة التحول عن مذهب، والسارية في النخب الثقافية، هي الانضمام، ليس في النخب الثقافية، هي الانضمام، ليس في الانحياز ببساطة، بل الخدمة. ويقول سعيد أنه ومع أن المرء يكره أن يستخدم الكلمة المناسبة لهذه الحالة وهي "العمالة" إلا أن هذا الانحياز ببساطة هو عمالة. مضيفاً أنه نادراً ما وجد مثال هذا النوع بغيض ومخز في الغرب عموماً، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، أكثر مما في الحرب الباردة، عندما انضمت حشود من المثقفين من المثقفين إلى ما اعتبرته معركة حاسمة على قلوب وعقول الناس في كل أنحاء العالم.
وهذه الصورة وجدها إدوارد سعيد في حفنة صغيرة جداً من المثقفين العرب المتواجدين في الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة، حيث اكتشفت هذه الحفنة لنفسها دوراً جديداً هناك. إذ أنهم كانوا ذات مرة مناضلين ماركسيين، غالباً تروتكسيين، ومؤيدين للحركة الفلسطينية، ولاحقاً أصبح بعض هؤلاء بعد الثورة الإيرانية إسلاميين، وعندما انهزمت الآلهة (أي مراكز انتماءاتهم) أو اضطرت للانسحاب بعيداً، خرس هؤلاء المثقفون، ابان البحث عن آلهة جديدة ليخدموها.
من هنا يبرز القول أن على المثقف أن يتنقل ويقابل الناس، وعليه امتلاك فسحة ليقف ويرد على السلطة، لأن التبعية الكاملة للسلطة في عالم اليوم واحد من الأخطار الأعظم على الحياة الفكرية الأخلاقية النشطة. ذاك ما دار حوله حوار إدوارد سعيد والذي رسم من خلاله صورة المثقف الحر اللامنتمي والفاعل في مجتمعه بصورة إيجابية بناءة.