قول المصنف أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ حول كتابه أنه لكل شيء من العلم ونوعٍ من الحكمة وصنف من الأدب سبباً يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتاً، ومعنىّ يحدو على جمع ما كان متفرقاً، ومتى أغفل حملة الأدب وأهل المعرفة تمييز الأخبار واستنباط الآثار، وضم كلّ جوهر نفسي إلى شكله، وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله، مطلق الحكمة وضاع العلم، وأميت الأدب، ودرس مستور كل نادر.
ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقر آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم وضاع آخره، ولذلك قيل: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول يتعلم منه الآخر. ويضيف الحافظ قائلاً بأن السبب على جمع نتف من أخبار العرب في حينها إلى أوطانها، وشدتها إلى قربها وبلدانها، ووضعها في أشعارها توقّد النار في أكبادها أنه كان قد فاوض بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار والنزاع إلى الأوطان، فسمعه بذكر أنه اغترب من بلد إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمد من مكانه، وأصعب من جنابه، ولم يزل عظيم الشأن، جليل السلطان تدين له عشائر العرب سادتها وفتيانها، ومن شعوب العجم إنجازها وشجعانها، ويقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس بما به إلا راغب إليه أو راهب منه، فكان إذ ذكر التربة والوطن حنّ غليه حنين الأمل إلى إعطائها. فكان من الجاحظ أن ألحق عليه فكرة جمع باقة من الأبيات التي أنشدها لفيف من الشعراء ذاقوا مرارة النأي عن الوطن، وعصفت بهم رياح الحنين والشوق إلي، فكان كتابه اللطيف "الحنين إلى الأوطان" الذي بين يدي القارئ، وأنه ورغم بعد الزمن بيننا وبين المصنف وزمن التصفيف إلا انه ما زال يحاكي الحنين إلى الوطن في زماننا هذا وفي كل زمان. إذ كان الجاحظ جمع فيه طائفة من الأبيات المعبرة الصادقة عن هذا الحنين، والتي هي في ذات الوقت تحمل سمات الإبداع الشعري فهماً معناً لدى شعرائنا القدامى