بعد أكثر من عشرين عاما قضاها الكاتب والصحافي زهير الجزائري متنقلا بين المنافي، عاد إلى بلده العراق في أوج الزلزال الذي أحدثته عملية سقوط النظام الدكتاتوري، ليكون الميدان الأقرب إلى روحه وقلبه في معايشة الحدث، ومتابعة تطوراته على الأرض.
هي أجيال فتحت عيونها على البعث وعلى صدام وكأن ما قبلهما مجرّد فراغ لا يعنيها بشيء، وتخشى النظر إليه، إذ لا تعرف عنه شيئاً. أجيال أخذت من حروب السلطة المستمرّة سلطة جنونها، ليصير لها دافعا للعنف والنهب.. " كان النهب مكافأة الجنود الذين يهجمون أولا ويصلون إلى الغنيمة قبل سواهم ".
لقد قضى الكثيرون من أبناء العراق نصف شبابهم في أجواء الحرب التي سرقت منهم الطمأنينة وراحة البال، وتركت مصائرهم في مهّب المجهول، وعلى عتبات أُفقٍ مسدود. وحالما انهارت الدولة التي أذلت حياتهم، وحرقت أجمل أيام شبابهم، تفجرّت في دواخلهم نوازع الغضب الأعمى، فراحوا ينهبون ويحرقون أمكنة اعتبروها مواضع عدوٍ لا يريدون ترك أثرٍ له يذكرّهم بعهود الذّل والحرمان.. " غياب السلطة خلق نوعا من انتشاء الذات داخل عالم غير عقلاني تشكّله ذوات منتشية بلا محرّمات ".
هذا العالم غيّر بأجوائه المنفلتة من العقل مظاهر الأمكنة، وملامح الأشخاص كما لو أنها لا تمت لذاكرتنا بصلةٍ رسمت لها الأزمنة يوما صورأ حيّة، وذكريات.. " ساحة التحرير باتت مركزاً للقتلة واللصوص وباعة المخدرات " أو مجنون ينظم المرور في احدى ساحات بغداد المزدحمة بالسيارات.
ن المجتمع العراقي على الذي توحّد قسريا تحت الحزب الواحد، قد تفكك بعد سقوط هذا الحزب وعاد إلى مرجعياته ( القبلية والإثنية والدينية والطائفية ) وانعكس ذلك سلبا على واقع الجماعات والأفراد.." دخلت هذا الرعب الطائفي وصرت أرى الآخر مريباً وينطوي على نيّات مخيفة " هكذا يعرّف الكاتب ما يعتمل في نفسه في ظل واقع العنف الطائفي، مع تأكيده على فكره العلماني وكونه سليل عائلة علمانية تربّت على حب الوطن بكل أطيافه، فكيف يكون حال من تربّى في أجواءٍ بدون حبٍ أو وطن ؟
وفي زحمة إنشغالاته بمشاهد الخرابالتي خلّفتها الحرب، ومتابعة صورها اليومية المقطّعة هنا وهناك، أراد الجزائري فسحة يستريح فيها من ضغط تلك المشاهد، فأختاربيت العائلة القديم ملاذاّ يرتدي فيه " دشداشة " أبيه، وينام في سرير أمه، ليعيش لحظاتٍ عبقَ الطفولة، وذكريات الأهل في شريطٍ إستعادي، توقف في محطاته، سارداً يوميات العائلة بتفصيلاتها الصغيرة، كأنه يريد القول لنا بأن للحياة أشكالاً أخرى غير هذا الخراب الذي يحاول أن يُنسينا إيقاعها الإنساني المشحون بالعاطفة والتواصل، وهذا ما فعله الكاتب أيضا في إستعادة وجوه أصدقائه بتوصيفاتٍ دقيقة تركّز على ما يميزهم في السلوك والعمل والنزهات الحرة التي تتجسّد فيها طباعهم بلا رتوش. ولأننا لم نجرّب ارادتنا بطلاقة منذ وقتٍ طويل، بحسب الجزائري، فضلا عن عدم تجريب القص، ولو همساّ، فقد ازدحمت مخيّلة العراقيين وتداخلت فيها الحكايات بارتباك السياق والجمل.
وكما البخار المضغوط، فأن قصصنا تحتاج إلى منفذٍ لكي تُقص بشكل مفهومٍ وبدون إرتباك. ويبدو أن زهير الجزائري قد جرّب إرادته بطلاقةٍ في هذا الكتاب ليصنع لنا منفذا لقصص عراقية واضحة السياق، تاركا وراءه الهمس الخائف