لقد عودنا الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن أن نظفر بالطريف في كل كتاب يخطه وفي كل موضوع يطرقه؛ وهاهو ذا، في الكتاب الذي بين يديك، يأتينا بما كنا نظن أن العقل ينكره، بل أن يحيله، في معضلة لطالما شغلت " إنسان هذا الزمان"، وحيّرت العقول ولا تزال، ألا وهي " العلاقة بين الدين والسياسة"! فقد تحدى فيلسوفنا المسلمات المقررة والاعتقادات المرسخة، مقتحماً عقبات العقل وحدود العلم، وجاءنا بمقاربة لهذه المشكلة ليست من جنس المقاربات المعهودة، لأنها لا تخاطب العقل المجرد في الإنسان، وإنما تخاطب عقله المؤيد بالروح؛ إذ تقرر أن الإنسان أشبه بالكائن الطائر منه بالكائن الزاحف.
ولما كانت مقاربة مفكرنا معالجة روحية غير مسبوقة لهذا الإشكال المحير، لم يكن بد من أن يتعرض لمختلف الدعاوى التي تعلقت به، علمانية كانت أو ديانية، ناقداً من غير تشنيع، وبانياً من غير ترقيع؛ وبعد أن طاف بنا في عوالم الوجود الإنساني، منبهاً على اتساع آفاقها وتداخل حدودها، انتهى إلى أن حلّ هذا الإشكال الخفي ليس في وجود ضيق يفصل بين الدين والسياسة ، ولا في وجود دونه ضيقاً يصل بينهما، وإنما في تجاوزهما معاً إلى فضاء وجودي غاية في السعة يتداخل فيه المرئي والغيبي تداخل اللحمة والسدى؛ فهنالك لا فصل ولا وصل، وإنما وحدة أولى تتلاشى فيها الحدود بين التعبد والتدبير؛ وتجلّت هذه الوحدة الروحية في ثمرة اللقاء الغيبي الذي عرض فيه الخالق، سبحانه وتعالى، على خلقه أجمعين، في يومٍ لا كالأيام، أمانته الثقيلة؛ فبادل الإنسان إلى حملها، متعهداً بالوفاء بحقوقها؛ إذ قضى الخالق، جلّ في علاه، في هذا اللقاء العظيم أن يكون التدبير أمانة، فصار بذلك عبادة، وأن تكون العبادة، هي الأخرى، أمانة، فصارت بذلك تدبيراً؛ لكن ما لبث الإنسان أن نسي عهده للخالق، سبحانه، ونسي حقيقة " الأمانة"، ففصل ما كان موصولاً، ووصل ما لم يكن مفصولاً