تشكل هذه المقابلات امتداداً لخطاب إدوارد سعيد في كتابته وأحاديثه ومحاضراته التي ألقاها في أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة، وهو خطاب يتناول قضايا مهمة في الحياة الفكرية والسياسية.
في تقديمه لهذا الكتاب يذكر لنا ديفيد بارساميان أن السؤال الأول الذي استقبله به إدوارد سعيد في مكتبه بجامعة كولومبيا كان: "هل لديك أسئلة وجيهة؟"، ثم يذكر لنا أن التوتر الذي كان يعتريه قبيل لقائه بمضيفه قد تبدّد واختفى فقط عندما ألقى بارساميان مقاطع من شعر محمود درويش، حينئذ فقط انطلق إدوارد سعيد في الحديث الذي انتهى إلى إجابات تلقائية، من دون مراجعة للأسئلة أو إجراء تمرينات عليها.
وبما يذكرنا هذا اللقاء بداية بقصة البحّار القديم في قصيدة كوليدج الشهيرة The Rime of the Ancient Mariner. التي تحكمي قصّة بحّار قديم جاء من أقاصي الأرض محمّلاً بالتجربة والحكمة وهبط إلى عالم الناس. وفي الليل التقى برجل كان في طريقه لحضور حفلة زفاف فاستوقفه ليقصّ عليه حكايته, تردّد الرجل في البداية لأن كان على موعد مع حفلة الزفاف، كلنّه سرعان ما وجد نفسه مسمراً في حضرة هذا الملاّح. ولشدة ما أبدع الملاّح في سرد الحكاية وجد ا لرجل نفسه مأخوذاً ومشدوداً لسماع القصّة قبل أن يواصل سيره إلى العرس, وما إن انتهى البحّار من رواية قصته حتى شعر الضيف أن مشاعره قد تغيرت. وهكذا، تنتهي القصيدة بنهاية تلخّص تجربة إنسانية تتخطى حدود الزمان والمكان: أفاق الرجل في صبيحة اليوم التالي وقد صار أكثر حزناً وحكمة.
إدوارد سعيد هنا أشبه بالملاّح القديم الذي أتى إلى هذا العالم من دون هوية محددة (وقد ذكر ذلك عن نفسه في غير مناسبة). وربما يكون ما دعا البروفيسور جورج شتاينر إلى القول: "إن إدوارد سعيد نصّ مفتوح على العالم". ربما وجد إدوارد نفسه مثل البحّار القديم، يحمل قصّة أزلية تلح عليه بأن يبحث عن راوٍ لها من بعده لينقلها إلى العالم بكل ما فيها من أثر وتأثير ياسر المتلقي إثر سماعها فيتبناها طوعاً.
هنا، كان المتلقي هو بارسميان الذي أصبح أسير الأجوبة الوجيهة التي أثارتها الأسئلة الوجيهة، والتي أثارت بدورها قصة الأزل وأخرجتها من جعبة الراوي. هل أدرك بارساميان لماذا أمل إدوارد سعيد أن تكون أسئلته وجيهة، وأن سؤاله عن طبيعة تلك الأسئلة أشبه بكلام عابر، من دون أن يكون لديهم أسئلة وجيهة ومن دون وعي مسبق منهم بأن إدوارد سعيد هو رجل الأزل؟ أغلب الظن أن بارساميان كان على وعي بذلك بدليل أنه يبدأ مقدمته باقتطاف قول إدوارد سعيد: "لم أستطع أن أعيش حياة ساكنة أو غير ملتزمة، ولم أتردد في إعلان انتمائي والتزامي بواحدة من أقل القضايا شعبية على الإطلاق".
وأكثرا من ذلك فإن بارساميان أدرك مثلما أردك إدوارد سعيد من قبله أن قضية فلسطين التي التزم إدوارد بها طوعاً هي أشبه بالأم الثكلى التي لا بواكي لها مثل بقية الأمهات. وما إن يبدأ بارساميان بإلقاء مقاطع من شعر محمود درويش حتى يوقن إدوارد سعيد أن مقابله ليس في غفلة عن ثقافة القضية وشعبها، وأنه بعكس الآخرين، إنما يحمل أسئلة وجيهة, وكثيراً ما اشتكى إدوارد سعيد من كثرة الذين قدموا للتحدث معه دون إلمام بأي شيء له علاقة بالتزامه وانتمائه. وعلى أي حال فإن بارساميان يتفوق على ضيف البحّار القديم لأنه لم يكن في حاجة إلى إلحاح البحّار حتى يوقفه ويروي عليه روايته، إذ يكتفي البحّار هنا بلفتة سريعة تضمنتها تلك الإشارة إلى أسئلة وجيهة