مثل هذه التأملات حول المنفى مجموعة مقالات كتبها إدوارد سعيد على مدى فترة تقارب الخمسة وثلاثين عاماً، وهي إلى هذا ثمرة من ثماره الفكرية التي نجمت عن تدريسه ودارسته في واحدة من المؤسسات الأكاديمية، هي جامعة كولومبيا في نيويورك. حيث كان قد وصل إلى هناك في خريف 1963 خريجاً جامعياً طري العود، وكان ما زال هناك عند كتابته لسطور هذه المقالات، أستاذاً في قسم الأدب الإنكليزي والأدب المقارن في تلك الجامعة. وبالنسبة له فإن الجامعة الأميركية بصورة عامة هي اليوتوبيا الأخيرة الباقية بالنسبة لهيئتها التدريسية وكثير من طلابها، لأن نيويورك هي الواقعة التي تلعب دوراً مهماً في ذلك الضرب من النقد والتأويل الذي قام به، والمتمثل في هذه الكتاب كنوع من السجل أو المدوّنة. فنيويورك، منفى إدوارد سعيد الذي هو محور المقالات، هي نيويورك القلعة المضطربة، المتنوعة بغير انقطاع، والمفعمة بالطاقة، والمتقلبة والمقاومة، والقادرة على الاستغراق والامتصاص وهي اليوم ما كانت عليه باريس منذ مائة عام، عاصمة عصرنا