لم أرهم في الساحة حين خرجت إليها ثانية. لم أجد فيها غير السائق الذي عرض علي خدماته. إلآ أن الساحة نفسها قد رشت بالماء، واكتست لونا آخر لاح القـار أسود منطفئاً محدداً بعجلات السيارات.
وشعت ذرات التراب بنيّة فواحة برائحة عذبة، في الأرصفة، وتحت شجيرات الدفلى التي بدت أوراقها الخضر المتناسقة مثل ريش طائر أنعشه البلل، فانتعش، وفاح برائحة حارة.
وفتر الوهج الذائب الذي تساقط على جفني عندما هبطت الطائرة، مثل ذرات الزجاج.
فاستطعت أن أمد بصري في الساحة مفتوح العينين، فأرى صف السيارات المتروكة، والسائق متكئاً على باب سيارته، مطويّ الصدر على خيبة. ووراء الساحة، خلف السائق، رأيت السدة المرتفعة تجري عليها السيارات، وكوكبة من الخيالة تصورتها
عائدة إلى معسكر الوشاش، الذي كنت أعرف أنه هناك، وإلى اليسار قليلاً محطة بغداد ذات القبة الزرقاء، محطة فكتوريا المشوهة، كما كانوا يسمونها .
تركتها ناقصة حين رحلت. والآن ألمح بعض العربات تتناثر وراء السياج، وتسطع خضراء في شمس تموز. وخلف المحطة هناك، وراء الخط الحديدي القادم عبر جسر الصرافية،
لابد أن ساحة السكك قائمة على عهدها يحرسها الثوران المجنحان، على بوابة المتحف الجديد، والباصات الخشبية الواطئة تتكور في جانبها الأيسر معبأة بركابها الريفيين، وباعة الأطعمة بعرباتهم المتنقلة،
وعربات المرطبات، والألبسة المستعملة ، وبعد الساحة يمتد شارع الصالحية المشجر، في الوسط بأشجار جوز الهند العقيمة، ومن هناك.. تبدأ بغداد