ندر أن ترك مفكر وفيلسوف في الغرب أو الشرق الأثر الذي تركه المفكر والشاعر الالماني فريدريك نيتشه، سواء في عصره أو في العصور اللاحقة. فقد استطاع نيتشه وبخاصة في كتابه الشهير "هكذا تكلم زرادشت" أن يحدث زلزالاً حقيقياً في المفاهيم والقيم السائدة ما تزال تردداته المتواصلة تترك أثرها الكبير في نفوس الأجيال المتعاقبة، ليس في ألمانيا وحدها فحسب بل في كل أرجاء الأرض.
على أن معرفة القراء العرب بنيتشه تقتصر في الأعم الغالب على الجانب الفلسفي من شخصيته، في حين أن الكثيرين لا يعرفون شيئاً عن وجوه إبداعه المتصلة بالموسيقى والمسرح، وبالشعر على وجه الخصوص. لذلك فإن الكتاب الشعري الصادر عن دار الجمل في ألمانيا والذي نقله الى العربية الشاعر والكاتب التونسي محمد بن صالح بعنوان "ديوان نيتشه" يسد ثغرة واسعة في هذا المجال ويعرّفنا أكثر فأكثر الى وجوه هذه الشخصية الفريدة في إبداعها وتجربتها وتكوينها المعقد.
وليس من قبيل الغرابة بالطبع أن يخوض نيتشه غمار الشعر بدءاً من مراهقته الأولى في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الفترة التي أفضت به الى الجنون قبيل موته بسنوات عدة. ذلك ان في فلسفته القائمة على القوة والتفرد وإعلاء الذات ما يتلاءم مع الشعر الى حد بعيد وما يجعل من هذا الفن الشديد الخصوصية وسيلة إضافية من وسائل تعبيره عن آرائه الجريئة وأفكاره الجامحة، خاصة أن نيتشه قد اعتبر في إحدى المراحل بأن الوجود نفسه هو ظاهرة جمالية يتقدم الشعراء والفنانون لإبراز دلالاتها وغائيتها.
يستهل محمد بن صالح القصائد المترجمة بمقدمة مسهبة وغنية يلقي فيها الكثير من الضوء على رؤية نيتشه للغة، لا بوصفها مجرد أداة للنقل والتوصل والابداع بل هي أداة للتقصي والاكتشاف ومعاناة في قول الذات والوجود. وإذا كان ذلك المفهوم للغة هو الذي شكل الرابط الحقيقي بين الشعر والفلسفة عند نيتشه، فإن خياره الشعري كما الفلسفي لم يذهب الى العقل البرهاني الأبولوني المتصل بالانساق والتحليلات المجردة، بل انحاز الى الجسد الديونيزي المتوتر والمنفعل باعتباره الوسيلة الأمثل للتحريض على الفعل كما على الابداع