قرأتُ وعملتُ بحماسٍ متأجّج... وكتبت... آه كم كنت سعيداً آنذاك! كم كان فكري، في هذيانه، يحلّق عالياً في تلك الأصقاع التي لا تزال مجهولة لدى بني البشر، حيث لا أناس ولا كواكب ولا شموس. كان داخلي لا متناهياً أرحب وأوسع من المطلق، وكان الشعر يتهادى محلّقاً باسطاً جناحيه في فضاءٍ من الحبّ والنشوة. ثمّ توجّب عليّ الانحدار مجدّداً من هذه السموات إلى الكلمات. لكن كيف بالإمكان أن أعبّر بالكلام عن هذا التناغم الذي يصعد في قلب الشاعر، وهذه الأفكار العملاقة التي تلوي الجُمَل كيَدٍ قويّة متورّمة تضيق بالقفّاز الذي يكسوها فتمزّقه؟
يا لتلك الخيبة. خيبة أن نلامس الأرض، الأرض الجليديّة حيث تنطفئ كلّ نار وتخبو كلّ طاقة. فأيّ مرقاة نتوسّل للانحدار من اللّامحدود إلى المحدود؟ كيف يمكن للفكر أن ينحطّ من علٍ دون أن يتحطّم؟ كيف بالإمكان تحجيم هذا العملاق الذي يُعانق اللّانهاية؟
يؤكّد شرّاح أعمال الكاتب، معتمدين على تواريخ دفاتره ومخطوطاته، أنّ فلوبير كان يمارس الكتابة الأدبيّة منذ أن تعلّم الكتابة، أي معالجة حروف الأبجديّة، صغيراً. أمّا النّصوص المترجمة في هذا الكتاب، وهي مؤرّخة كلّها، فقد كتبها بين سنّ الخامسة عشرة والعشرين. وهي لم تُنشر إلاّ بعد وفاته بعشرين عاماً، إذ ظهرت روايته القصيرة "مذكّرات مجنون" في 1900، ثمّ راحت طبعات نصوص صباه تتوالى، مغتنية بنصوصٍ جديدة كل مرة