قد أجمع علماء الآثار أن العراق كان مهبط حضارة تعدّ من أقدم الحضارات في العالم. وقد شاركته في هذه الميزة مصر، واختلف بعض العلماء حول أيها أسبق حضارة من الآخر، ليس هذا المهم، إنما ما يهم هو معرفة أن العراق قد احتضن منذ البداية التاريخ البشري حضارة مزدهرة. وظلت الحضارة تراود العراق حيناً بعد حين. وقد مرّ عهد، إبان تأسيس الدولة العباسية، أصبح العراق فيه مركز الحضارة العالمية، حتى صارت عاصمته بغداد بودقة اجتماعية ضخمة تذوب فيها خلاصة ما أبدعه البشر من تراث حضاري حتى ذلك الحين.
ويجد الباحث العراق من الناحية الأخرى واقعاً على حافة منبع فياض من منابع البداوة، هو منبع الجزيرة العربية. فكان العراق منذ بداية تاريخه حتى يومنا هذا يتلقى الموجات البدوية واحدة بعد الأخرى. فكان بعض تلك الموجات يأتيه عن طريق الفتح العسكري، والبعض الآخر منها يأتيه عن طريق التسلسل التدريجي. وكلاً من هذين النوعين من الموجات لا بد أن يؤثر في المجتمع العراقي، قليلاً أو كثيراً، فتنشر فيه القيم البدوية وتحاول التغلغل في مختلف فئاته وطبقاته.
هنا يجد الباحث الشعب العراقي واقعاً بين نظامين متناقضين من القيم الاجتماعية: قيم البداوة الآتية إليه من الصحراء المجاورة، وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه الحضاري القديم. وأن المتوقع في مثل هذه الحالة أن يعاني الشعب صراعاً اجتماعياً ونفسياً على توالي الأجيال. فهو من ناحية لا يستطيع أن يطمئن إلى قيمه الحضرية زمناً طويلاً؛ لأن الصحراء تمدّه بين كل آونة وأخرى بالموجات التي تغلق عليه طمأنينته الاجتماعية. وهو من الناحية الأخرى لا يستطيع أن يكون بدوياً كابن الصحراء لأن الحضارة المنبعثة من وفرة مياهه وخصوبة أرضه تضطرّه إلى تغيير القيم البدوية الوافدة إليه لكي يجعلها ملائمة لظروفه الخاصة. قد يجوز وصف الشعب العراقي بأنه شعب حائر؛ فقد انفتح أمامه طريقان متعاكسان وهو مضطر أن يسير فيهما في آن واحد، فهو يمشي في هذا الطريق حيناً ثم يعود ليمشي في الطريق الآخر حيناً آخر