يكتشف القارئ لابن خلدون كمؤرخ أنه ابن خلدون لا يقف في صنعته عند حدود التأريخ ولكن يتعدى مهنة المؤرخ ليضحي اسمه جامعاً تختفي شخصيات عدة. يمثل ابن خلدون راوياً مثل غيره من الرواة عندما يتكلم على أصول العرب والبربر والترك، ومشاهداً صحفياً عندما يتكلم على نفسه وعلى سلاطين بني مرين، ومؤرخاً يزاحم في الإتقان والنباهة والاطلاع المسعودي أو البيروني، ومنظراً لقواعد الكتابة التاريخية، مبدعاً لعلم العمران في مستوى فلاسفة عهد التنوير، كاشفاً عن الحقيقة التاريخية كميزة بشرية... الخ في كل مرة يوضع في سياق خاص، بجانب المسعودي أو فولتير أو هيوم أو بودان.
تتعدد الرسائل حول ابن خلدون وتتعارض لأنه لم يعد يوجد، بالنسبة لقراء اليوم، فرد يسمى ابن خلدون، بأي شخصية من الشخصيات الخلدونية يقتدي المؤرخ المبتدئ؟ ضمن هذه المقاربة تجري خطوات البحث في هذا الكتاب حيث يتمحور الموضوع حول المؤرخ لا التاريخ. التاريخ كصناعة لا التاريخ كمجموعة حوادث الماضي، وهدف الباحث هو وصف ما يجري في ذهن رجل يتكلم عن وقائع ماضية، من منظور خاص به، تحدده حرفته داخل مجتمعه، وسينتهي الباحث، ومن خلال جولته البحتية، وبالضرورة والاستصحاب إلى مسائل متفرعة، إلى الوسائل والأهداف، إلى الأساليب والأشكال، مع حرصه على البقاء وفياً للمقولة الرئيسية وهي أن الشيء الملموس الوحيد، الذي لا يمكن أن يجادل فيه أحد، هو وجود مهنة المؤرخ. كان محور البحث في الجزء الأول حول ألفاظ مذاهب المؤرخين وجاء النقاش في الجزء الثاني حول المفاهيم والأصول